صلاح هاشم
صلاح هاشم يكتب عن أفضل فيلم عربي «مناصفة» في مهرجان القاهرة «بركات» الجزائري يصرخ: كفانا إرهارباً
< استعراض جميل ورقيق لفترة العنف العصيبة التي عاشتها الجزائر في التسعينيات < المخرجة جميلة صحراوي لا تفرض عملها علينا بالكلام والخطب بل بالتأمل والتفكير < الفيلم قصيدة بصرية رقيقة تعتمد علي الصورة ولحظات الصمت وتشبه قصص تشيكوف وبيرانديللو
< استعراض جميل ورقيق لفترة العنف العصيبة التي عاشتها الجزائر في التسعينيات < المخرجة جميلة صحراوي لا تفرض عملها علينا بالكلام والخطب بل بالتأمل والتفكير < الفيلم قصيدة بصرية رقيقة تعتمد علي الصورة ولحظات الصمت وتشبه قصص تشيكوف وبيرانديللو
****
كنت علي يقين بعد ان تابعت فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الثلاثين وشاهدت بعض الافلام الاجنبية في المسابقة مثل فيلم «الطريق» «الصيني»، و معظم الافلام العربية في المهرجان، وكنت حزنت جدا عندما علمت ان فيلم هالة خليل " قص ولزق" قد عرض، وفاتني عرضه، بعدما كنت شاهدت فيلمها الاول " أحلي الاوقات " في مهرجان «تطوان» ، وأعجبت به وبفن مخرجته، منهجها في التعامل مع السينما كاداة تفكير في الواقع، وهموم الانسان المصري وطرحها لمشكلة " الهجرة في فيلمها الجديد.كنت علي يقين من خلال تجوالي الذي لايكل، لمتابعة الافلام العربية الجديدة التي حرص المهرجان علي احضارها، ومشاركتها في العديد من اقسام المهرجان- اكثر من 20 فيلما- ليقدم كشف حساب للسينما العربية خلال سنة، ويصبح بمشاركة اربعة افلام مصرية دفعة واحدة في مسابقة المهرجان، او بالاحري مسابقاته، يصبح هكذا اكبر تجمع سينمائي عربي في الشرق الاوسط، بحكم موقعه، والاضافات الكثيرة التي حققها المهرجان خلال ثلاثين سنة من تاريخه.. كنت علي يقين من ان فيلم " بركات " للمخرجة الجزائرية جميلة صحراوي، سيفوز بجائزة في مسابقة الافلام العربية, بعد ان تكسرت دماغي من مشاهدة بعض الافلام المصرية والعربية الرديئة في المهرجان، وأسوأها في رأيي فيلم " مفيش غير كده " لخالد الحجر، وفيلم " اطلال " للمخرج اللبناني غسان سلهب. وسنعود اليهما لاحقا..
اذ يحكي " بركات " وكلمة بركة بالدارجة الجزائرية تعني " كفي " ، يحكي عن طبيبة جزائرية تغامر في فترة التسعينيات بعد ان اختطف الارهابيون زوجها الصحفي، تغامر بالبحث عنه، وتصعد مع ممرضة عجوز كانت شاركت في حرب التحرير الجزائرية وحتي استقلال الجزائر عام 19962، الي الكهوف التي يختبأ بها الارهابيون في الجبل، وتواجههم، وتطلب منهم مساعدة الممرضة العجوز اطلاق سراحه، فيعتقلونها ويودعونها الحبس مع زميلتها، كما يقومون بتعذيبها، ويجبرونها لكونها طبيبة علي اخراج رصاصة من فخذ ارهابي جريح.. ذاكرة الثورة ترسم جميلة صحراوي في الجزء الاول من فيلمها العذب الجميل الرقيق، ترسم المناخ العام لتلك الفترة العصيبة التي مر بها بلدها في التسعينيات ، ومازالت الجزائر تعاني من تبعاتها ونتائجها وآثارها، وتختار هذه القرية الصغيرة بجوار البحر، التي يتحكم بها الارهابيون من المتطرفين الدينيين، ويحكمون بقوة الارهاب للهيمنة علي بلدها الجزائر الجميل. فالحكاية ليست حكاية دين وقيم واخلاق، بقدر ماهي صراع علي السلطة والتحكم في رقاب العباد في البلاد، ويبدو ذلك في تلك الغطرسة التي يتعامل بها الحاج الصائغ في القرية، مع رواد المحل، في حين ترفض الممرضة العجوز داخل السيارة الصاعدة في الجبل ان يطلق عليها لقب " حاجة " . وتتعرض لانها تدخن السجائر اثناء الرحلة لبعض الشتائم والاهانات من سيارة عابرة يقودها اخواني جزائري متطرف، كما تضطر الي تغيير ملابسها الافرنجية باللباس الجزائري اليشمك العربي، قبل ان تقود الطبيبة الي موقع الارهابيين في الجبل. وتكشف جميلة صحراوي في القسم الاول من الفيلم عن مناخات الرعب التي تعيشها بطلة الفيلم الطبيبة حين تضطر الي نقل طفل جارتها المحتاج الي عملية جراحية لاستئصال المصران الاعور الي المستشفي البعيدة في الليل، والتعرض لخطر الخطف او الموت عند نقاط التفتيش، وكانت تلك النقاط والمراكز علي الطريق حولت الجزائر بقراها ومدنها الصغيرة الي جزر منعزلة ومتباعدة ومرعبة، وحولت البلاد كلها الي سجن كبير، وجعلت الجزائريين يتغربون داخل قراهم واوطانهم ، ..وحتي داخل جلودهم..
في الجزء الثاني وبعد اطلاق سراح الطبيبة والممرضة في الجبل، تتعرفان علي مزارع جزائري فيأويهما ويطعمهما ، وحين يهبط الليل يروح يناجي زوجته التي ماتت منذ شهر فقط لكي يبثها أحزانه ولوعته، وبخاصة بعد ان خطف الارهابيون اولاده واختفوا ثلاثتهم وطال بحثه عنهم من دون جدوي، وكانت الممرضة المناضلة القديمة في جيش التحرير تعيش في ذات الجبل وكهوفه، وانقذت حياة مناضل من موت محقق آنذاك بعدما اخرجت من جسده عدة رصاصات علي اثر تحرش المقاومة بالعسكر الفرنسي ، ثم اذا بها تلتقي به فجأة هنا في الجبل وتكتشف سره، وتدرك انه قد تحول من جيش التحرير الي " حاج " ارهابي ، وانضم الي جيوش المتطرفين الجزائريين الارهابيين- وهنا تشتغل جميلة صحراوي علي " ذاكرة " الثورة ، وترينا كيف تحول البعض من المناضلين الجزائريين القدامي من " محررين " الي «جزارين وارهابيين وقتلة» لا لشيء من تلك الشعارات التي يرفعونها بأسم الاسلام، وهو منهم براء ، بل من أجل الوصول الي سدة الحكم والسلطة، والسيطرة علي البلاد بقوة الحديد والنار.. تقدم جميلة صحراوي في الجزء الثاني من الفيلم بعد اطلاق سراح الطبيبة والممرضة في الجبل ، تقدم عرضا لحياة الريف الوديعة المطمأنة في حضن النبع والجبل، وتلك السحابات الراحلة في الافق وحقول الزهور الممتدة الي حيث لا نهاية، حيث تعطي الطبيعة ثمرها بسخاء وكرم، وتلتقي الاثنتان- بما تمثلانه من ثنائية حيث تقف الممرضة العجوز للجيل القديم، الذي ناضل من اجل الاستقلال، وحرر الجزائر، في ما تمثل الكبيبة الشابة في الفيلم - التي تلعب دورها باقتدار الممثلة الجزائرية الصاعدة رشيدة براكني ، وهي ممثلة بارزة في مسرح " الكوميدي فرانسيز " العريق وحصلت علي جائزة السيزار كأحسن ممثلة شابة منذ سنوات- تمثل الجيل الجديد من الشباب الذي مازال بعد يعاني من الارهاب، والقتل والتشريد والبطالة في وطنه، وتكون كل هذه الاشياء والمشاكل المتراكمة في قلب حياته وواقعه المعاش، عوامل طرد اكثر منها عوامل انتماء وجذب ، بل انها تدعو يقينا الي الخروج الكبير، للهروب من جحيم الاوطان، والبحث عن مستقبل آخر في اوروبا..حتي ولو كان ثمن تلك المغامرة الموت غرقا.كما يمكن ان نعتبر ان الشخصيتين - الطبيبة والممرضة- هما وجهان ل " هوية " الجزائر ومعبرتان في آن واحد عن " الماضي " و " الحاضر " ومن غير قصد أو فذلكة او استعراض عضلات، من قبل المخرجة صاحبة الفيلم، التي تطرح لنا هنا فيلمها مثل " اللوز المقشر،" ، وتجعله ينساب في خفة وثقة وانسيابية هادئة جميلة، وتضبط ايقاعه علي حركة المركبة العربة الكارو الصغيرة التي تنقلهما في صحبة المزارع من الجبل الي البلدة، و من الريف الي الحضر والعمران، ويجرها حصان. اذ يسحبها الي تلك المقاهي التي تحتشد بالشباب الجزائري الخاسر العاطل ، ومجرد ظهور امرأة صار يتسبب في نشوب عركة او خناقة في المقهي وتضطر معها الطبيبة ان تشهر غدارتها الانتقام لا يفيد " بركات " فيلم جميل و بسيط لكنه ذكي وعميق ، وهو لايفرض نفسه علينا بالكلام والخطب ، بل وينساب بايقاع بطيء يبعث علي التأمل والتفكير، من دون الزعيق والصراخ والحوارات الساحنة الملتهبة الفضائحية الركيكة في جل سيناريوهات واحداث الافلام العربية الفاقعة التي شاهدناها في المهرجان، وهو اذ يتوسل الي مخاطبتنا بالصورة اولا ، ثم بالهمس ثانية من خلال استخدام اقل الكلمات في الحوار- والاقتصاد في استخدام تقنيات الخزعبلات البصرية المبهرة/ كما في مشاهد ذلك الفيلم الهندي الدعائي التي كانت تعرض علينا قبل فيلم المسابقة، و هلكتنا ودوختنا..ببوليوود، وطبول بومباي وهوليوود مجتمعة.. اذ تأنف السينما من ان تكون مجرد تصريحات علي الفاضي والمليان كما في فيلم " استغماية " المصري الذي يضع شخصياته علي كرسي الاعتراف عند طبيب نفساني ، وهات يارغي، اللهم ارحم.. بل تشتغل بحكم طبيعتها وهويتها وابجديتها ، تشتغل علي الصورة من خلال لحظات الصمت لتجعل من " بركات " قصيدة بصرية رقيقة وفيلما تعليميا مثل قصائد برتولت بريخت وقصة لتشيكوف او بيرانديللو . هنا يبحر " بركات "كما زهرة في نبع، تسافر باطمئنان ، لكي تلتقي بالجداول والطيور والشجر، وتتآلف في رحلتها مع السحب والاكوان ، وتكون النتيجة ان تطوح بطلة الفيلم الطبيبة في نهاية الفيلم ، تطوح بذلك المسدس الذي عثرت عليه في بيت والدها الي البحر. تلقي به الطبيبة الي البحر الكبير، لأنها علي ثقة بأن الارهاب لا يقاوم بالارهاب، وان الانتقام يقينا لاينفع ، وانما يكون القضاء علي الارهاب لا بارهاب مثله، بل بالحوار والاقناع والجدل، بعيدا عن معارك الجزارين، وحرب العوالم ، التي يريد ان يشعلها " بوش " بسياساته بدعوي محاربة الارهاب ، للتحكم في البلاد والعباد.. تطرح جميلة صحراوي فيلمها «بركات» مثل " اللوز المقشر " و" الشهد " الصافي ، بعد ان تكون طهرته من الثرثرات الكلامية المعادة والمكررة و الرذيلة، التي تحفل بها جل الافلام المصرية التي شاهدناها في المهرجان ، وفي حين تكبلها بالكلام وتعوقها عن الانطلاق والحركة, وتقيدها ب " الورق " - أي سيناريو الفيلم المكتوب وتقاس قيمة الافلام بحجمه ووزنه، اما ماذا سوف يطرح الفيلم من قيم وأفكار فذلك لايعنيها، ولا تكترث له البتة ، و كانت النتيجة ان قصفنا ذلك " الشو " الاستعراضي السخيف في فيلم " مفيش غير كده " برقصاته واغنياته المترهلة وسخافاتها التي أصابتنا بالصداع الشديد، وجعلتنا نقرف من حياتنا ، وتلك افلام هشة وسهلة الكسر،..
أفلام هشة لاتقدم سينما ، ولاتطرح فكرا ، بل تكون اشبه بخبط الحلل، وقرقعات الصاجات الفارغة الخاوية في " زفة " كلها حكي ورغي ورقص وزيطة وكلام كما في فيلم " مفيش غير كده" ذاك الذي قدم سلسلة من الاستعراضات الغنائية الراقصة الهابطة، وجاء رديئا وسخيفا ومملا وفاقدا لاية مصداقية.. بل ان خالد الحجر يكرس يقينا بهذا العمل لتخلفنا ، فالفيلم الذي يحكي عن ام تربي اولادها بعد ان هجرها الاب وهرب مع فتاة شابة وجميلة، ويصور كيف تنجح الام في ان تصنع من ابنتها مطربة مشهورة، مثل هؤلاء المطربين والمطربات الذين ظهروا في حياتنا منذ سنوات، من ابداع وصنع وفبركة رجالات المال والدعاية وروتانا، بمجهودات ومشروعات ملهمة وجميلة لتخريب الغناء العربي، وجعله استنهاضا للشهوات والغرائز المكبوتة وتغريبنا عن واقعنا وحياتنا بالكلام الهلس الذي هو العبث بعينه وكأنه يقول لنا انه لايوجد وغير متوافر الا هذا في حياتنا. حياتنا ام حياة هؤلاء السذج الذين يحكي عنهم في فيلمه، وقد انساقوا واستسلموا لهذا الطوفان من الاسفاف ،الذي يعرض له علي طبق فضة، ولايجد كما يقول الا هذا - التفاهة بعينها- لكي يعرض هل علينا في ورق سوليفان ، وتروج تلك النجمة التي فقدت بريقها وعزها ومجدها تروج لذلك " الهراء " وتتغني به في المشهد الوقح الاستعراضي، ولاتخجل من التشبث بالقطار بعد ان فاتها القطار وانقضي زمنها وعهدها.. تحية الي جميلة صحراوي علي فيلمها البسيط الهادئ الوديع الرزين، الذي ينساب في خفة وتؤدة مثل مياه الجداول والينابيع، ويحكي عن هموم وتناقضات شعب، ومبروك لها حصولها علي جائزة أحسن فيلم عربي في المهرجان مناصفة مع فيلم " قص ولزق ": لهالة خليل
عن جريدة " القاهرة " بتاريخ 12 ديسمبر 2006
No comments:
Post a Comment